الأحد، 14 ديسمبر 2014

يوم الأربعين

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم 



نتقدم بأحر التعازي والأسى لمقام بقية الله في الأرض أرواحنا له الفداء الإمام المنتظر
( عج ) ولمراجعنا العظام ولكافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بذكرى أربعينية الأمام الحسين (ع) وأهله (ع) وأصحابه (ع) .. فلنعرج بهذه الذكرى لزيارتهم (ع) ونجدد العهد بالإمام الحسين (ع) ..

..عرج على كربلاء ياركبنا الحزين ..
..نزور فيه سيدنا ومولانا الإمام الحسين ..
..عرج على جسد ليس به يدين ..
..عرج على تربة زاد لها الحنين ..
..ياركبنا عد بنا فهذه الشجون ..
..في قلبنا قد بقت ليوم الاربعين ..

مر على استشهاد الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام وأهل بيته (ع) وأصحابه (ع) أربعون يوماً ، وقَدْ قضى العقل والدين باحترام عظماء الرجال ، أحياءً وأمواتاً ، وتجديد الذكرى لوفاتهم وشهادتهم ، وإظهار الحُزن عليهم ، لا سِيَّما من بذل نفسه وجاهَد ، حتى قُتِل لمقصدٍ سَامٍ ، وغَايَةٍ نَبيلة ، وقد جرت على ذلك الأمم في كلِّ عصرٍ وزمان ,, فحقيق على المسلمين بل جميع الأمم أن يقيموا الذكرى في كل عام للإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام ،، وإحياء هذا اليوم المشهود قد أصبح من شعائر الله تعالى ومن أجزاء التاريخ ..
فإن الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام قد جمع أكرم الصفات ،، وأحسن الأخلاق ،، وأعظم الأفعال ،،
وأجلَّ الفضائل والمناقب ،، علما وفضلا ، وزهادة وعبادة ، وشجاعة ، وسخاء وسماحة، ومقاومة للظلم ، وقد جمع إلى كرم الحسب شرف النسب وهو نسب حبيب إله العالمين محمد المصطفى صلى الله عليه وآله ..

وقد جاهد الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام لنيل أسمى المقاصد ، وأنْبل الغايات ، وقام بما لم يَقُم بمثله أحد .. فبذل عليه أفضل الصلاة والسلام نفسه ، ومالَه وآلَه (ع) وأصحابه (ع) ،، في سبيل إحياء الدين ،، وإظهار فضائح المنافقين ،، واختار المنيَّة على الدنيَّة ، وميتة العز على حياة الذل ، ومصارع الكرام على اللئام ..
فأمن الحق أن تقام له عليه أفضل الصلاة والسلام الذكرى على ما جرى عليه في كل عام ، بل وفي كل يوم ، وتبكي له العيون بدل الدموع دمـــا ..
ونحن وفي هذه الذكرى الأليمة نرى في جميع انحاء العالم كم من الزائرين الموالين والمواليات سواء عن قرب او عن بعد ،، جاؤوا يحملون اللوعة والحرارة في زيارتهم للإمام للحسين عليه أفضل الصلاة والسلام في هذه الذكرى الأربعينية لأبي عبد الله الإمام الحسين (ع) ..
فكيف لاتكون اللوعة والتآسي بهذه المصيبة الألمية منا نحن المحبين للإمام الحسين (ع) بهذه الذكرى ،، فقد حث أهل بيت النبوة عليهم أفضل الصلاة والسلام شيعتهم وأتباعهم ومحبيهم على إقامة الذكرى لهذه الفــاجعة الألمية في كل عام ، فهم نعم القدوة وخير من اتبع صلوات الله عليهم أجمعين ..
فقد قال الإمام الحسين (ع): (انا قتيل العبرة ما ذكرت عند مؤمن الا ودمعت عيناه)..
وفقد بكى الإمام زين العابدين (ع) على مصيبة أبيه الإمام الحسين (ع) ثلاثين سنة ..
وكان الإمام الصادق (ع) يبكي لتذكُّر المصيبة ، ويستنشد الشعر في رثائه ويبكي ..
وكان الإمام الكاظم(ع) إذا دخل شهر محرم لا يُرَى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلُبُ عليه ..
وقال الإمام الرضا (ع) ( إنَّ يَومَ الحسين أقرحَ به جُفونَنا ، وأسال دموعنا ، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ) ..
ونحن نقول كلنا بصوت واحد .. سيدي يا أبا عبد الله 
سيدي إن فاتنا السعي إليك ،، لترانا صرعا بين يديك ،، لم يفتنا الوجد والنوح عليك ،، أبد الدهر وجذب الحسرات ..

:: فضل يوم الأربعين ::
إن لأربعينية الأمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام أصول وجذور ، فقد ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: إنّ الأرض لَتبكي على المؤمن أربعين صباحاً ..
وجاء عن الإمام الباقر عليه السلام: إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً.. تطلع حمراء، وتغرب حمراء ..
وكما ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قولُه: إنّ السماء بكت على الحسين عليه السلام أربعين صباحاً بالدم، وإنّ الأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسواد، وإنّ الشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة... وإنّ الملائكة بكت عليه أربعين صباحاً..
ولمّا كانت مزايا الإمام الحسين عليه السلام وفجائعه لاتُحدّ.. لم تتوقّف هذه السُّنّة الشريفة، وهي إحياء مناسبة زيارته من قِبل أسرته. قال الشيخ المجلسيّ: عن المناقب: ذكر الشريف المرتضى في بعض مسائله أنّ رأس الحسين عليه السلام رُدّ إلى بدنه بكربلاء من الشام، وضُمّ إليه. وقال الشيخ الطوسيّ: ومنه «زيارة الأربعين».
ويمضي الموالون لأهل البيت عليهم السلام على تجديد العهد في يوم الأربعين من كلّ سنة ، يتذكّرونه ويُذكّرون به ، ويتثبّتون على أصله في حديث الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام: علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين (وهي الفرائض اليوميّة مع النوافل) ، وزيارة الأربعين (وهي زيارة الحسين سلام الله عليه في أربعينيّة شهادته، والألف واللام في كلمة الأربعين تُسمّى للعهد، فهي زيارة معهودة مشهورة)، والتختّم باليمين (التزاماً بسُنّة النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم)، وتعفير الجبين (بالسجود على الأرض؛ خضوعاً لله تعالى وتذلّلاً في محضره القدسيّ)، والجهر بـ «بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم» (وذلك وجوباً في الصلاة الجهريّة)..
فهذه هي علامات المؤمن المسلّم لأوامر الله تعالى، ومنها موالاةُ أوليائه ومودّتُهم وقد قال الله تعالى : "قُلْ لا أسألُكم عليهِ أجراً إلاّ المودّةَ في القُربى"،، والإمام الحسين (ع) من أقرب قُربى رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومن مصاديق المودّة: إحياءُ الذكرى، والمواساة مع التأسيّ ، والتفاعل الروحيّ والقلبيّ بسيرته وماجرى عليه صلوات الله عليه.
وهذا من خصوصيّات المؤمن الموالي والمحبّ المخلص، يكون فيه علامةً تُميّزه عن عامّة الناس، إذْ زيارة الإمام الحسين عليه السلام في يوم أربعينه ممّا يدعو إليها الإيمانُ الخالص والولاء الخالص لأهل البيت عليهم السلام، ويؤكّدها الشوق الحسينيّ ، ولايوفَّق إلى ذلك إلاّ خصوص المشايعين له والسائرين على منهاجه وأثره.
ونذكر هنا قصة الصحابي الجليل جابر الأنصاري في الأربعين ..

قال عَطا : كنت مع جابر بن عبد الله الأنصاري يوم العشرين من صفر ، فلمَّا وصَلنا الغاضرية اغتسل في شريعتها ، ولبس قميصاً كان معه طاهراً ، ثم قال لي : أمَعَكَ من الطيب يا عَطا ؟
قلت : معي سُعد .
فجعل منه على رأسه وسائر جسده ، ثم مشى حافياً حتى وقف عند رأس الحسين ( عليه السلام ) ، وكَبَّر ثلاثاً ، ثم خرَّ مغشياً عليه ، فلما أفاق سَمِعتُه يقول : السلام عليكم يا آلَ الله ( بحار الأنوار 101 / 329 ) .
وكان يزيد قد أمر بِرَدِّ سبايا الحسين ( عليه السلام ) إلى المدينة ، وأرسل معهم النعمان بن بشير الأنصاري في جماعة .
فلمَّا بلغوا العراق ، قالوا للدليل : مُر بنا على طريق كربلاء ، وكان جابر بن عبد الله الأنصاري ، وجماعة من بني هاشم قد وردوا لزيارة قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
فبينا هُم كذلك إذ بِسَوادٍ قد طلع عليهم من ناحية الشام .
فقال جابر لعبده : اِنطلق إلى هذا السواد وآتِنَا بخبره ، فإن كانوا من أصحاب عُمَر بن سعد فارجع إلينا ، لعلَّنا نلجأ إلى ملجأ ، وإن كان زين العابدين ( عليه السلام ) فأنت حُرٌّ لوجه الله تعالى .
فمضى العبد ، فما أسرع أن رجع وهو يقول : يا جابر ، قمْ واستقبل حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، هذا زين العابدين قد جاء بِعَمَّاته وأخواته .
فقام جابر يَمشي حافي الأقدام ، مكشوف الرأس ، إلى أن دنا من الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، فقال ( عليه السلام ) : ( أنْتَ جَابِر ؟ ) .
فقال : نعم يا بن رسول الله .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( يَا جَابر هَا هُنا واللهِ قُتلت رجالُنا ، وذُبحِت أطفالُنا ، وسُبيَتْ نساؤنا ، وحُرقَت خِيامُنا ) .
وفي كتاب الملهوف : إنهم توافوا لزيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن ، وأقاموا المأتم ، واجتمع عليهم أهل ذلك السواد ، وأقاموا على ذلك أياماً ( أعيان الشيعة 1 / 617 ) .

الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

نبذة من حياة السلطان أبي الحسن علي الرضا عليه السلام



نبذة من حياة السلطان أبي الحسن عليه السلام


مختصرٌ من حياة الإمام عليِّ بنِ موسى الرِّضا (عليه السّلام)1 ـ مولدهوُلد الإمام عليُّ بنُ موسى الرِّضا (عليه السّلام) في الحادي عشر من شهر ذي القعدة ، يوم الخميس أو يوم الجمعة ، بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومئة ، بعد وفاة جدّه الصّادق (عليه السّلام) بأيّام قليلة ، وكان الإمامُ الصّادق (عليه السّلام) يتمنّى إدراكه .فقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) أنّه قال : (( سمعتُ أبي جعفرَ بنَ محمّد (عليهما السّلام) غير مرّة يقول لي : إنّ عالمَ آلِ محمّدٍ (عليه السّلام) لَفِي صُلبِكَ ، وليتني أدركتُهُ ؛ فإنَّهُ سميُّ أميرِ المؤمنين (عليه السّلام) ))(1) .أمّا أبوه فهو الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) ، وأمّا اُمّه فهي اُمُّ ولد يُقال لها : اُمّ البنين ، واسمها نجمة ، ويُقال : تكتم . اشترتها حميدة المُصفّاة اُمُّ الإمام موسى (عليه السّلام) ، وكانت من أفضل النِّساء في عقلها ودينها ، وإعظامها لمولاتها .وروي أنّ حميدة رأت في المنام رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لها : (( يا حميدة ، هبي نجمةً لابنكِ موسى ؛ فإنّهُ سيُولد له منها خيرُ أهلِ الأرضِ )) . فوهبتها له ، فلمّا ولدت له الرِّضا (عليه السّلام) سمّاها الطَّاهرة .وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن نجمة اُمِّ الإمام الرِّضا (عليه السّلام) تقول : لمّا حملتُ بابني عليٍّ لم أشعر بثقل الحمل ، وكنتُ أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتمجيداً من بطني ، فيفزعني ذلك ويهولني ، فإذا انتبهت لم أسمع شيئاً , فلمّا وضعتُهُ وقع على الأرض واضعاً يده على الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء , يُحرّك شفتيه كأنّه يتكلّم ، فدخل إليّ أبوه موسى بن جعفر (عليه السّلام) فقال لي : (( هنيئاً لكِ يا نجمة كرامة ربِّك )) .فناولته إيّاه في خرقة بيضاء ، فأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ودعا بماء الفراتِ فحنّكه به ، ثم ردّه إليَّ وقال : (( خُذيه ؛ فإنَّهُ بقيّةُ اللهِ في أرضِهِ ))(2) .وروي عن البزنطي قال : قلتُ لأبي جعفر (عليه السّلام) : إنَّ قوماً من مخالفيكم يزعمون أنّ أباك (عليه السّلام) إنّما سمّاه المأمونُ الرِّضا ؛ لما رضيه لولاية عهده .فقال (عليه السّلام) : (( كذبُوا والله وفجروا ، بل اللهُ تبارك وتعالى سمّاه الرِّضا ؛ لأنّه كان رضيَّ الله عزّ وجل في سمائه ، ورضيَّاً لرسوله والأئمَّة من بعده (عليهم السّلام) في أرضه )) .قال : فقلتُ له : ألم يكُنْ كلُّ واحدٍ من آبائك الماضين (عليهم السّلام) رضيَّ الله عزّ وجل ، ولرسوله والأئمَّة من بعده (عليهم السّلام) ؟فقال : (( بلى )) .فقلتُ : فلِمَ سُمِّي أبوك (عليه السّلام) من بينهم الرِّضا ؟قال : (( لأنَّه رضيَ به المُخالفونَ من أعدائِهِ كما رضي به الموافقونَ من أوليائه ، ولم يكن ذلك لأحدٍ من آبائه (عليهم السّلام) ؛ فلذلك سُمِّي من بينهم الرِّضا (عليه السّلام ) ))(3) .
2 ـ فضائلُهُ ومناقبُهُ ومعاجزُهُ (عليه السّلام)فضائل ومناقب ومعاجز الأئمَّة (عليهم السّلام) خرجت عن حدِّ العدِّ والإحصاء ، بل قد يكون حصرُها مستحيلاً ؛ لكثرتها وعدم الإحاطة بها ، ومن هؤلاء الأئمَّة (عليهم السّلام) الإمام أبو الحسن الرِّضا (عليه السّلام) ؛ فقد حوى من المناقب والفضائل ما أبهرت عقول البشر ، إضافة إلى ما وهبه الله من عِلمٍ دانت له الفرق والملل .فقد روي عن أبي الصّلت الهروي أنّه قال : ما رأيتُ أعلم من عليِّ بن موسى الرِّضا (عليه السّلام) ، ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل شهادتي ، ولقد جمع المأمون في مجالس له ـ ذوات عدد ـ علماء الأديان وفقهاء الشَّريعة والمُتكلِّمين ، فغلبهم عن آخرهم حتَّى ما بقي أحدٌ منهم إلاّ أقرّ له بالفضل ، وأقرّ على نفسه بالقصور ، ولقد سمعت عليَّ بن موسى الرِّضا (عليه السّلام) يقول : (( كُنتُ أجلس في الرَّوضة ، والعُلماءُ بالمدينة متوافرون ، فإذا أعيا الواحدُ منهُمْ عنْ مسألةٍ أشاروا إليَّ بأجمعِهمْ ، وبعثوا إليَّ بالرَّسائل فاُجيب عنها )) .وكان (عليه السّلام) إذا خلا جمع حشمه كلَّهم عنده ، الصغير والكبير ، فيُحدِّثهم ويأنس بهم ويؤنسهم ، وكان (عليه السّلام) إذا جلس على المائدة لا يدع صغيراً ولا كبيراً حتَّى السَّائس والحجّام إلاّ أقعده معه على مائدته(4) .ومن معاجزه (عليه السّلام) ما روي عن الريّان بن الصّلت أنّه قال : لمّا أردت الخروج إلى العراق عزمت على توديع الرِّضا (عليه السّلام) ، فقلتُ في نفسي : إذا ودّعته سألتُه قميصاً من ثياب جسده لاُكفَّن به ، ودراهم من ماله أصوغ بها لبناتي خواتيم ، فلمّا ودّعته شغلني البكاء والأسى على فراقه عن مسألتي تلك ، فلمّا خرجت من بين يديه صاح بي : (( يا ريّان ، ارجع )) .فرجعت ، فقال لي : (( أما تُحبُّ أنْ أدفعَ إليك قميصاً من ثياب جسدي تُكفَّن فيه إذا فنى أجلك ؟ أوَ ما تُحبُّ أنْ أدفعَ إليك دراهمَ تصوغُ بها لبناتك خواتيم ؟ )) .فقلتُ : يا سيدي ، قد كان في نفسي أنْ أسألك ذلك فمنعني الغمّ بفراقك .فرفع (عليه السّلام) الوسادة وأخرج قميصاً فدفعه إليّ ، ورفع جانب المُصلّى فأخرج دراهم فدفعها إليَّ ، فعددتها فكانت ثلاثين درهماً(5) .ومنه أيضاً ما رواه ابن شهر آشوب عن سُليمان الجعفري أنّه قال : كنتُ مع الرِّضا (عليه السّلام) في حائطٍ له وأنا معه ، إذ جاء عصفور فوقع بين يديه , وأخذ يصيح ويُكثر الصِّياح ويضطرب ، فقال لي : (( يا سُليمان ، تدري ما يقولُ العصفورُ ؟ )) .قلت : لا .قال : (( إنّه يقول : إنّ حيّةً تأكلُ أفراخي في البيت . فقم فخذ النبعة في يديك ـ يعني العصا ـ وادخل البيت واقتُل الحيَّة )) . فأخذت النَّبعة ودخلتُ البيت ، فإذا حيَّةٌ تجول في البيت فقتلتُها(6) .
3 ـ شهادتُهُ (عليه السّلام)لمّا استتب الأمر للمأمون أخذ الجلاوزة والوشاة يُهوّلون عليه خطر الإمام الرِّضا (عليه السّلام) وهو في المدينة ، ولم يكُنْ الإمام (عليه السّلام) بصدد القيام بثورة ضدّه ؛ لكون تلك الاُمور مرهونة بأوقاتها وأوامرها الإلهيّة ، ولكن مع هذا كلِّه ذكروا له أنّه لا راحة لبالك إلاّ أنْ تأتي بعليِّ بن موسى الرِّضا إلى مدينة خراسان ليكون تحت نظرك وقريب منك ؛ تعلم بشرِّه وخيره .فاستجاب لهم ، وأُتي بالإمام (عليه السّلام) مع بعض أهل بيته وعياله ، وبعد عناء السّفر الطويل وصل الإمام (عليه السّلام) لمدينة ( مرو ) ، وقد عرض المأمون على الإمام (عليه السّلام) ولاية العهد إلاّ أنَّ الإمام (عليه السّلام) رفضها بأشدّ الرفض ، قائلاً له : (( أتُريدُ أنْ يُقال : إنّ الرِّضا ما كان زاهداً في الدُّنيا ، وإنَّما هي زاهدةٌ فيه ؟! )) .ولذا عندما عُرضت عليه ولاية العهد قبلها مُكرَهاً ، وهو ما يبيّنه بقوله (عليه السّلام) : (( لا والله ، ما كنتُ راضياً بذلك من تلقاء نفسي أبداً )) . وكذلك قال (عليه السّلام) : (( لقد نهانِي اللهُ أنْ اُلقي نفسي بالتَّهلكة )) . وقبلها بشرطِ أنّه لا يأمر ولا ينهى ، ولا يعزل ولا يُولّي ، ولا يتكلّم بين اثنين في حكومة ، ولا يُغيّر شيئاً ممّا هو قائم على أصله , فأجابه المأمون على ذلك .ثم إنَّ المأمون جلس مجلساً خاصّاً لخواصِّ أهل دولته من الاُمراء والوزراء ، والحُجّاب والكُتّاب ، وأهل الحلِّ والعقدِ ، وكان ذلك في يوم الخميس لخمس خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومئتين(7) .وبعد فترة لم يرقَ للمأمون ما صنعه للإمام الرِّضا (عليه السّلام) من ولاية العهد ، وندم على فعلته هذه ، وإنّ حبَّ النّاس ما زال يزداد يوماً بعد يوم للإمام (عليه السّلام) ؛ ممّا دعاه أنْ يُفكر بالقضاء على أبي الحسن الرِّضا (عليه السّلام) ، وبالفعل صمّم على قتل الإمام (عليه السّلام) .روى الشبلنجي في ( نور الأبصار ) عن هرثمة بن أعين ـ وكان من رجال المأمون ، والقائمين على خدمة الإمام الرِّضا (عليه السّلام) ـ قال : طلبني سيّدي أبو الحسن الرِّضا (عليه السّلام) في يوم من الأيّام ، وقال لي : (( يا هرثمة ، إنّي مُطلعُكَ على أمرٍ يكونُ سرّاً عندك ، لا تُظهرُهُ لأحدٍ مُدّةَ حياتي ، فإذا أظهرته مُدّةَ حياتي كُنتُ خصماً لك عند الله )) .فحلفت له أنّي لا أتفوه بما يقوله لي لأحد مدّة حياته .فقال لي : (( اعلم يا هرثمة أنّه قد دنا رحيلي ولحوقي بآبائي وأجدادي ، وقد بلغ الكتابُ أجلَهُ ، وإنّي اُطعَم عِنباً ورُمّاناً مفتوتاً فأموت ، ويقصد الخليفة أنْ يجعلَ قبري خلف قبر أبيه هارون الرشيد ، وإنّ الله لا يُقدره على ذلك ، وإنّ الأرض تشدُّ عليهم ؛ فلا تُعمل فيها المعاول ، ولا يستطيعونَ حفرها ))(8) .وهكذا حصل ما أخبر به الإمام الرِّضا (عليه السّلام) ، فما مرّت الأيّام إلاّ وقد فعل الظالمُ فعلته العظيمة بخليفة الله في الأرض ، وإمام الإنس والجنّ معاً ، عليِّ بن موسى الرِّضا (عليه السّلام) .قال أبو الصّلت الهروي : دعاني سيدي ومولاي الرِّضا (عليه السّلام) ، فلمّا حضرت عنده قال لي : (( يا أبا الصّلت ، غداً يبعثُ عليَّ هذا الفاجرُ فاُدخل عليه ؛ فإنْ أنا خرجتُ مكشوفَ الرَّأسِ كلّمني ، وإنْ أنا خرجتُ وأنا مُغطّى الرأس فلا تُكلّمني )) .قال الهروي : فلمّا أصبحنا من الغدِ لبس الإمامُ (عليه السّلام) ثيابَهُ ، وجلس في محرابه كأنه ينتظر ، فبينما هو كذلك إذ دخل عليه غلامُ المأمون ، وقال : أجب أمير المؤمنين .فلبس نعله ورداءه ، وقام يمشي ـ وأنا أتبعه ـ حتى دخل على المأمون ، وبين يديه طبق عنب وأطباق الفاكهة ، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلمّا أبصر الرِّضا (عليه السّلام) وثبَ إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ، ثم ناوله العنقود وقال : يابنَ رسول الله ، ما رأيتُ عِنباً أحسن من هذا !فقال الرِّضا (عليه السّلام) : (( رُبما كان عنبٌ أحسنَ مِنْ هذا في الجنّةِ )) .فقال له : كُلْ منه .فقال الرِّضا (عليه السّلام) : (( اعفني من ذلك )) .فقال : لا بدّ من ذلك ، وما يمنعك منه ؟ لعلّك تتهمنا بشيء ؟فتناول الإمام (عليه السّلام) العنقودَ وأكل منه ثلاث حبّات ، ثم رمى به وقام ، فقال المأمون : إلى أين ؟ فقال الرِّضا (عليه السّلام) : (( إلى حيثُ وجّهتني إليه )) .قال أبو الصّلت : وخرج سيدي الرِّضا (عليه السّلام) وهو مُغطّى الرَّأس فلم اُكلّمه حتّى دخل الدار ، وأمر أنْ يُغلقَ الباب فغُلق ، ثم اضطجع على فراشه وراح يتقلّب ويضطرب ، ومكثتُ واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً ، فبينا أنا كذلك إذا بشابٍّ حَسن الوجه ، قطط الشعر ، أشبه النّاس بإمامي الرِّضا (عليه السّلام) ، فبادرت إليه وقلتُ له : منْ أين دخلت والباب مُغلق ؟!فقال : (( يا أبا الصّلت ، الذي جاء بِي مِنَ المدينةِ إلى طوس هو الذي أدخلني الدَّارَ والبابُ مُغلقٌ )) .فقلتُ له : مَن أنت ؟فقال : (( أنا إمامُك الجواد )) .ثم مضى نحو أبيه ، فدخل وأمرني بالدخول معه ، فلمّا نظر إليه الرِّضا (عليه السّلام) وثب إليه فعانقه ، وضمّه إلى صدره ، وقبّل ما بين عينيه ، وصار يُوصيه بجميع ما أهمّه .ثم إنّ الإمام الرِّضا (عليه السّلام) مدّد يديه ، وأسبل رجليه ، وغمّض عينيه ، وقضى نحبه صابراً مُحتسباً مسموماً , فالتفت إليّ الجواد (عليه السّلام) وقال : (( يا أبا الصّلت ، قُمْ فائتني بالمُغتسل والماء من الخزانة )) .فقلت : ما في الخزانة مغتسل ولا ماء !فقال لي : (( انتهِ لما أمرتُكَ بهِ )) .فدخلتُ الخزانة فإذا فيها مغتسل وماء فأخرجته ، وشمّرت ثيابي لأغسله ، فقال لي : (( تنحّ يا أبا الصّلت ؛ فإنَّ مَن يُعينني غيرك )) . فغسّله ثم قال : (( ادخُل الخزانة فأخرج لي السّفطَ الذي فيه كفنُهُ وحنوطُهُ )) .فدخلت ، فإذا أنا بسفط لم أرهُ في تلك الخزانة قط ، فحملته إليه ، فكفّنه وصلّى عليه ، ثم قال : (( ائتني بالتَّابوت )) .فقلتُ : أمضِ إلى النجّار حتى يصلح التابوت .قال : (( قم ، فإنَّ في الخزانة تابوتاً )) .فدخلتُ الخزانة فوجدتُ تابوتاً لم أرَه قط ، فأتيته به ، فأخذ الرِّضا (عليه السّلام) بعد ما صلّى عليه فوضعه في التابوت ، وصفّ قدميه وصلّى عليه(9) .فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا آل بيت محمّد (صلّى الله عليه وآله) أيّ منقلب ينقلبون ، والعاقبةُ للمُتَّقين 

صلح الإمام الحسن عليه السلام



صلح الإمام الحسن عليه السلام




دراسة تاريخية موثقة يتناول فيها العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي تأثيرات صلح الامام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) مع معاوية بن أبي سفيان على الجهاد الذي تبناه الامام الحسين بن علي ( عليه السلام ) .
تأثير الصلح الحسني في الجهاد الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين .
لقد جاهد الإمام علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الناكثين ، و المارقين و القاسطين . . ثم كان ما يسمى بـ " صلح " أو عقد و عهد الإمام الحسن عليه السلام ، الذي ألجأته الظروف إلى عقده مع معاوية .
و اللافت : أن هذا العهد قد حقق إنجازا عظيما على صعيد تأكيد الحق ، و ترسيخ الشرعية فيما يرتبط بإمامة أهل البيت عليهم السلام ، و سلب ذلك عن الطرف الآخر ، و انتزاع اعتراف خطي منه بأنه باغ و متغلب ، حين أكدت بنوده على :
1 ـ أن الحق لا بُدَّ أن يعود للإمام الحسن عليه السلام ، ثم من بعده للإمام الحسين عليه السلام .
2 ـ أن ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده .
3 ـ أن لا يقيم الإمام الحسن عليه السلام شهادة عند معاوية .
4 ـ أن لا يسميه أمير المؤمنين . .
5 ـ أن يعمل بكتاب الله و سنة نبيه .
6 ـ أن لا يذكر علياً إلا بخير .
7 ـ أن يكون أصحاب علي و شيعته آمنين حيث كانوا من أرض الله .
8 ـ أن يكون الناس جميعاً آمنين حيث كانوا من أرض الله .
و ثمة شروط أخرى ذكرها المؤرخون أيضاً .

و قد كان معاوية يعلم أن نقض أي بند من هذه البنود سيحرمه من صفة الشرعية ، و سيظهر وفقا لما تعهد به من أهلية الإستمرار في ذلك الموقع .
و قد أعطى معاوية هذه الشروط ، و هو يرى نفسه أنه الأقوى ، و أنه هو المنتصر ، و خزائن الأموال بيده ، و الجيوش تحت أمرته ، و الناس رهن إشارته . . و معه و من ورائه الأخطبوط الأموي المنتشر في طول البلاد و عرضها ، الذي ما فتئ لم يزل يعمل على هدم ما يبنيه علي و ولده ، و على تثبيت أمر معاوية و ترسيخه .
و في مقابل ذلك فإن جيش الإمام الحسن عليه السلام كان مفكك العرى ، متفرق الأهواء ، يضم حتى فلول الخوارج ، الموتورين على يد أبيه أمير المؤمنين عليه السلام . . و قد ظهرت في هذا الجيش الخيانات الكبرى حتى من أقرب الناس إلى الإمام الحسن عليه السلام نسباً ، و هو عبيد الله بن العباس الذي ذبح له عمال و أنصار معاوية طفلين ، و لكن ذلك لم يمنعه من بيع دينه لمعاوية بمليون درهم فقط ، حيث نسي ولديه ، بعد أن نسي ربه ، و خان إمامه .
و اللافت أن بنود هذا العهد لتبطل أمر معاوية حتى قبل أن يبدأ ، إذ أننا لو أخذنا بنداً واحداً من هذه البنود ، و هو البند الذي يشترط أن لا يقيم الإمام الحسن عليه السلام شهادة عند معاوية ، فإن هذا البند الذي لا يخطر على بال أحد أن يذكر في صلح بهذه الخطورة ، تحقن به دماء ألوف من المسلمين ، و لا يخطر على بال أحد أن يكون هناك حديث عن إقامة شهادة عند قاض ، قد لا يحتاج إليها على مدى عمر الإنسان كله ، و لو لمرة واحدة ، فضلا عن أن يسجل ذلك في هذا الصلح الخطير .
نعم إننا لو لاحظنا ذلك لرأينا : أن معاوية يقبل بأن لا يقيم الإمام الحسن عليه السلام عنده حتى الشهادة ، مع أنه يعلم : أن الشهادة قد لا تزيد على حفظ حق إنسان مّا في أرض أو فرس ، أو الاقتصاص للطمة أو جرح .
و ذلك الشرط إنما يعني إبطال أمر معاوية من أساسه ، حتى قبل أن يتصدى و يمارس أمور الحكم ، لأن معنى هذا الشرط أن معاوية :
إما غير قادر على معرفة أحكام الله ، و لو في مثل هذه الأمور الجزئية و البسيطة ، فكيف يتصدى إذن لموقع خلافة الرسول صلى الله عليه و آله ، الذي يعني لزوم أداء مهماته صلى الله عليه و آله في تعليم الدين ، و بيان شرائعه و أحكامه ، و في التصدي للشبهات ، و حل المعضلات ؟
و إما أن معاوية كان يعرف كيف يقضي بين الناس ـ لكنه لم يكن مأموناً على القضاء بالحق .
فمن لا يؤمن على القضاء في فرس ، أو دار ، أو لطمة أو نحو ذلك ، فهل يؤمن على دماء الأمة ، و أعراضها و أموالها ، و على دينها و مستقبلها ؟
و إذا كان معاوية لا يستطيع أولا يؤتمن على القضاء بهذا المستوى فيكف يفي بتعهداته بالعمل بالكتاب و السنة ؟
و إذا كان هو المؤسس و الأساس لدولة بني أمية ، فقد اتضح أن هذا الأساس لا يملك ما يؤهله لهذا الموقع باعتراف منه ، و بتوقيع عهد و عقد مع من ينكر له أي حق فيما يدعيه . . ثم إنه يسجل ذلك و يوقع عليه في مقام لا بُدَّ له فيه من وضع النقاط على الحروف بكل دقة و حرص . . و حيث لا مجال للتغاضي ، و لا للغفلة و لا للتسامح .
فإذا كان هذا البند يعطينا ذلك كله فما بالك بسائر البنود ؟ ! مثل أن لا يسميه الإمام الحسن عليه السلام بأمير المؤمنين ، فمن كان رأس أهل الإيمان ، لا يرضاه أميرا للمؤمنين ، فهل يرضاه أميراً له ؟ ! .
كما أنه هو بنفسه يسجل : أن ليس لأحد من ولده ، و لا من قومه أي حق في هذا الأمر . . بل الأمر يرجع إلى الحسن ، ثم للحسين عليهما السلام .
و بعدما تقدم يتضح : أن إمامة الإمامين الحسن و الحسين عليهما السلام تصبح مفروضة و لازمة ، بمقتضى جميع الأعراف ، و عند سائر الأمم .
فالحسنان عليهما السلام بنظر المسلم الملتزم إمامان : قاما أو قعدا . بمقتضى نص رسول الله صلى الله عليه و آله .
و الحسن عليه السلام هو وصي أبيه سلام الله عليه ، كما سجله لنا التاريخ أيضاً ( راجع الحياة السياسية للإمام الحسن عليه السلام ) و ذلك يكفي حجة على من يرى لزوم العهد من الخليفة السابق للاحق .
أضف إلى ما تقدم : أن هذا العقد الذي تم بين الإمام الحسن عليه السلام و معاوية لا بُدَّ من الوفاء به حتى عند أهل الجاهلية . بل إن كل المجتمعات الإنسانية حتى التي لا تدين بدين اصلاً تحتم الإلتزام به ، و لا تجيز نقضه .
و ذلك لأن المجتمعات الإنسانية تعتبر الوفاء بالالتزامات والعهود والعقود أساسا لبناء حياتهم في مختلف المجالات ، حتى السياسية والإجتماعية منها ، وعلى وفق هذه الرؤية ومن هذا المنطلق تنظم علاقاتها بالأمم و الشعوب ، و الجماعات .
و لا تجد أحدا يجيز لأحد الطرفين نقض العهد و العقد إلا بالتراضي و التوافق ، و الاتفاق مع سائر الأطراف .
يزيد هو الباغي :
و بذلك يتضح لكل أحد وفق هذا المنطق الشرعي ، و العقلي ، و العقلاني ، و الإنساني ، أن يزيد بن معاوية هو الباغي على الحسين عليه السلام ، و هو الخارج عليه ، حتى لو أعلن أبوه معاوية نقضه للعهد . فإن العهد لا ينتقض بذلك .
بل إن العهد نفسه قد سلب معاوية حق نقض العهد لو توهم جاهل أن له أي حق في ذلك . و ذلك حين صرح بقوله : و لا يحق لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده .
فترة تأسيس الدين :
و من جهة أخرى نقول :
لقد كانت الفترة التي تلت وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله . . هي فترة تأسيس الدين ، و ترسيخ دعائمه ، و تقرير أحكامه و شرائعه ، و سياساته و قيمه .
فكل ما يقال و يمارس في هذه الفترة سوف يصبح جزءً من الدين ، و ستتداوله الأجيال ، حقا كان أو باطلا .
و حتى لا يبقى الباطل وحده هو سيد الموقف ، و المطروح للتداول ، كان لا بُدَّ لأمير المؤمنين عليه السلام و الخلص من أصحابه من أن يشاركوا في هذا التأسيس ، و أن يطرحوا للناس الحق الذي يسعى الآخرون ، إما لتجاهله و الابتعاد عنه ، أو للعبث و التلاعب به .
و لذلك دخل عمار ، و سلمان ، و حذيفة ، و مالك الأشتر ، و أضرابهم في مناصب الدولة ، فتولى عمار الكوفة ، و سلمان المدائن ، و حذيفة كان قائداً للجيوش الفاتحة ، في فتوح نهاوند المعروف بفتح الفتوح ، و كان هو السبب في زوال ملك الأكاسرة . و شارك الأشتر في الحروب معهم ، وشترت عينه فيها فقيل له الأشتر ـ و لا شك في أن ذلك كان برضى من أمير المؤمنين عليه السلام ، أو بتوجيه منه .
و قد كان عليه السلام يسعى لحفظ التوازن و الهدوء في العلاقة مع الخلفاء . و كان يحضر مجالسهم ، و يشارك في بيان مسائل الدين ، و حل معضلات الأمور ، حتى لقد كثر قول عمر : لولا علي لهلك عمر .
و لكن الأمر كان أعظم من ذلك أيضاً .
فقد كان الخلفاء يدّعون : أن لهم ما للرسول صلى الله عليه و آله ، و أنهم يقومون بما يقوم به ، فلهم القضاء ، و الحكم ، و قيادة الجيوش ، و تعليم الناس أحكام دينهم ، و تربيتهم ، و سياستهم و تدبير أمورهم . تماماً كما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه و آله . بل لقد زعموا أن لهم حق التشريع في الدين ، و الفتوى بآرائهم فيه 
و قد مارسوا ذلك بالفعل ، و منعوا الناس من رواية حديث رسول الله صلى الله عليه و آله ، و من كتابته و تدوينه ، و حبسوا كبار الصحابة بالمدينة ، و استعاضوا عن سنة الرسول صلى الله عليه و آله ، و أقواله و سيره ، بثقافات أهل الكتاب ، و ملأوا عقول الناس بها ، و منعوا الناس من السؤال عن معاني القرآن ، و من كتابة تفسيره .
ثم إنهم قد عملوا على أن يضفوا على أنفسهم هالة من القداسة ، لا مجال لاختراقها ، فكان من آثار هذه القداسة أن أصبحت سياسات الخلفاء هذه دينا يدان به و شرعاً يتبع .
و كانت النتيجة هي ما ذكرنا من أنه لم يبق من الدين إلا رسمه ، و من الإسلام إلا اسمه .
فكان لا بُدَّ من إسقاط هذه الهالة ، و إسقاط قناع الزيف عن وجوه أولئك المجرمين . و قد قام أمير المؤمنين عليه السلام بما كان يمكن القيام به في هذا السبيل ، فأعاد التأكيد على الخطوط العامة ، و أصحر للناس بالعقائد الحقة ، و بين سياسات الإسلام تجاه كل هذا الواقع الذي يواجهه . . و حارب الناكثين و المارقين و القاسطين .
و جاء الإمام الحسن عليه السلام ليخطوا الخطوات التي أتيح له أن يخطوها أيضاً في نفس هذا الإتجاه ، فأنجز الصلح الذي تحدثنا عنه آنفاً .
و لم يبق إلا أن يحدث الزلزال الذي فرض على الأمة أن تراجع حساباتها ، بعد أن سقط القناع المزيّف الذي حاول الغاصبون و الطامعون أن يستروا به حقيقتهم .
و أفاق الناس على واقعهم المرير ، ليجدوا أن ثقافة أهل الكتاب هي التي تهيمن عليهم ، بعد أن سلبت منهم معارف الإسلام ، و ليجدوا أنهم يقدسون أشد الناس انحرافاً عن الله . أو أعظمهم طغياناً عليه .
و ليجدوا أن الذين يقدسونهم ليسوا هم الأمناء على وحي الله سبحانه و تعالى ، و لا هم العالمون بشرايعه سبحانه .
و ليجدوا . .
و ليجدوا . . إلى ما لا نهاية . .
و قد جاءت حركة الإمام الحسين عليه السلام الجهادية بصورة لا تقبل التأويل ، و لا مجال فيها لإثارة أية شبهة أو لبس ، فأسقطت هالة القداسة ، و فرضت على الناس أن يعيدوا النظر في كل شيء ، و أن يبحثوا عن الإسلام و أهله ، و أن يميزوا بين مصادر المعرفة فيه من جديد . . و أصبح هذا الأمر هو الوظيفة المفروضة على كل إنسان إلى يوم القيامة .
لماذا الحسين و لماذا على يزيد بالذات :
هذا ، و لقد كان الناس يعرفون الكثير الكثير مما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله عن مصير أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، و كانوا قد عرفوا أيضا الحسين عليه السلام ، و أخاه و أباه سلام الله عليهم أجمعين . . عرفوهم في ممارساتهم ، و في توجهاتهم ، و في كل حالاتهم .
و عرفوا في مقابل ذلك : رموز الشجرة الملعونة و أهدافها ، و سيرتها ، و وقفوا على حالاتها . و كذلك على حالات و سير و أخلاق خصوم أهل البيت عليهم السلام بصورة عامة ، الذين يريدون أن يكونوا ملوكاً جبارين .
و الناس أيضا . . قد عرفوا بنود صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية .
و قرأوا على صفحات الواقع و التجربة ، و المعايشة القريبة ، خصائص الشخصية العلوية ، و الحسنية ، و الحسينية . و هم أهل بيت النبوة سلام الله عليهم .
ثم إن الناس قد قرأوا أيضاً على صفحات الواقع و التجربة ، و المعايشة القريبة خصائص خصوم أهل البيت عليهم السلام ، من أمثال معاوية و يزيد و غيرهما .
ثم إن الناس كذلك . . قد رأوا بأم أعينهم كيف أن هذا الباغي و المعتدي ، و المدعي لمقام خلافة الرسول صلى الله عليه و آله لا يتحمل حتى أن يرفض إنسان واحد الإنقياد له مع أنه هو المعتدي على حق هذا الإنسان ، و مع أن أباه بالذات قد سجل أن لا حق له ، و لا لأحد من ولده في هذا الأمر ، و أنه الحسين بالذات هو صاحب الحق .
نعم . . إن يزيد لم يتحمل حتى أن يرفض هذا الإنسان بالذات و الإنقياد له . فراح يلاحقه بثلاثين ألف مقاتل إلى قلب الصحراء ، ليقتله مع أهل بيته ، و ثلة يسيرة جدا من أصحابه ، و يسبي نساءه و أطفاله .
رغم أنه من أهل بيت النبوة ، و سيد شباب أهل الجنة الحسين عليه السلام بالذات ، فكيف ـ يا ترى ـ سيتعامل مع سائر الناس ، لو بدرت منهم أية بادرة مهما كانت تافهة و صغيرة ؟ ! .
المعايير هي الأقوى و الأبقى في الأمة :
ثم إن الإمام الحسين عليه السلام قد أعطى للمعايير الفطرية و العقلية ، و الإنسانية قوتها و فاعليتها ، حين قال للناس في بداية حركته الجهادية :
" إنا أهل بيت النبوة ، و معدن الرسالة ، و مختلف الملائكة ، بنا فتح الله و بنا يختم . و يزيد رجل شارب الخمور ، و قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق ، و مثلي لا يبايع مثله " .
و لتوضيح هذه الكلمة الشريفة نقول :
إنه لا ريب في أن قاتل النفس المحترمة لا يمكن أن يكون هو الأمين على دماء الناس ، فهل يؤمن على أعراضهم و أموالهم ؟ ! . ثم على مصيرهم و مستقبلهم ، و يصبح هو الحاكم المتصرف في ذلك كله ؟ ! .
و هو لا يملك ـ بسبب معاقرته للخمر ـ في أوقات كثيرة ، حتى التوازن العقلي ، الذي يحمي قراره من الضعف و الرعونة ، و من أن يكون قرارا مدمرا للأمة ، أو ملحقاً بها و بمستقبلها أضرارا فادحة على أقل تقدير .
هذا فضلا عن أن شارب الخمور ، لا يمكن أن يحفظ الأسرار الخطيرة التي منها ما يلامس مستقبل الأمة و حياتها ، حيث لا يجد الذي يتعاطى المسكرات أي وازع و رادع ، من عقل أو دين عن البوح بها لغير أهلها .
ثم إنه إذا كان معلناً بالفسق أيضاً ، و لا يخجل بفسقه و فجوره ، فإنه لا يعتبر المنكر منكراً ، ليتصدى لدفعه و إزالته من الواقع العام ، كما أن من يكون كذلك لا يتوقع منه أن يربي الأمة على مكارم الأخلاق .
و يغرس فيها خصال الخير و الصلاح و يقودها إلى مواقع العزة و الكرامة و السؤود .
و في الطرف المقابل نجد : أن الحسين عليه السلام هو من أهل بيت النبوة ، على حد هذا التعبير المنقول عنه عليه السلام .
و اختيار كلمة النبوة قد جاء ليشير إلى الوحي الإلهي ، الذي هو مصدر المعارف و العلوم الغيبية ، و لم يقل : " أهل بيت النبي " حتى لا يتوهم أن المراد الإشارة إلى الارتباط به كشخص ، لأجل نسب ، أو سبب عادي قد يناله أناس آخرون .
فإذا كان يزيد أو غير يزيد يدّعي أنه خليفة لرسول الله صلى الله عليه و آله ، و له صلاحياته ، فمن أين يمكنه أن يثبت لنفسه هذا المقام إلا من طريق الوحي و النبوة ؟ و أهل بيت النبوة عليهم السلام ينكرون عليه ذلك .
و الحسين عليه السلام هو المصدر و المرجع للناس كلهم ، و هو الذي لا بُدَّ أن يؤخذ منه التشريع و الأحكام الإلهية . . لأنه معدن الرسالة . . أي الأصل و المنشأ الذي تؤخذ منه سنن و أحكام الرسالة و مضامينها خالصة من الأغيار ، و صافية من الشوائب ، فلا يستطيع يزيد و لا غير يزيد أن يرد عليه ما يخبر به من أحكام الله سبحانه و تعالى و شرائعه ، لأنه أعرف الناس بما يوافق الشرع أو يخالفه .
و الحسين عليه السلام أيضا هو من نشأ في بيت الطهارة ، و القداسة ، و الإيمان ، البالغ أعلى الدرجات في ذلك ، حتى صار بيته مختلف الملائكة .
و لا يستطيع أحد أن يدّعي لنفسه أو لبيته هذا المستوى من الطهارة أبداً ، فهل يستطيع أن يدّعي ذلك يزيد الذي نشأ في بني كلب ، حيث لا دين ، و لا هدى ، بل مفاهيم الجاهلية و أحكامها ، هي المهيمنة ، و الطاغية . و الأهواء و الشهوات و المآثم هي السلوك العام ، و هي القائد و السائق في مختلف الحالات ، و في شتى المجالات ؟ ! .
بنا فتح الله و بنا ختم :
و يستمر الإمام الحسين في كلماته الهادية تلك فيؤكد على أن الله سبحانه قد فتح أبواب الهداية و الصلاح و الإصلاح للأمة بالحسين ، و بأهل بيت النبوة عليهم السلام . و سيختم بهم عليهم السلام على يد ولي الله الأعظم الحجة القائم المهدي صلوات الله و سلامه عليه ، فما معنى أن ينازع يزيد ، أو غير يزيد هؤلاء الصفوة الذين يمثلون خط الهداية الإلهية للبشرية ؟ ! .
و إذا كان يزيد و غيره ممن سبقه أو لحقه من غير أهل البيت يستطيع أن يدّعي للناس أنهم ليسوا أولى بالنبي صلى الله عليه و آله منه ، و لا أعرف بشرائعه ، و لا أليق بمقامه ، و لا أجمع للصفات و المزايا المطلوبة في من يفترض فيه أن يأخذ موقع الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، و يضطلع بمهماته ، فقد يجد من يصدقه في ذلك . و لكن هل يستطيع أن يدّعي هؤلاء ذلك في مقابل الحسين عليه السلام ، و لاسيما بملاحظة كل هذا الذي ذكرناه ، و بملاحظة : ما ذكرناه من دلالات صلح الإمام الحسن عليه السلام ؟ .
و حسبنا هذا الذي ذكرناه ، و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على عباده الذين اصطفى محمد و آله الطاهرين .





جعفر مرتضى العاملي