الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

فلسفة موسم عاشوراء



لماذا الموسم :



الموسم العاشوري في شهر المحرم موسم يدخل على القلوب الأحزان ويثير فيها الأشجان وهو موسم كرسته سيرة أهل البيت عليهم السلام منذ أن قتل الحسين في الطف الكئيب وقد اتخذته الأئمة موسماً لدكار الأحزان إماماً بعد أمام و كابراً عن كابر..فهو يأتينا في كل عام مرة و يدور معنا بدوران السنين و الحقيقة إنّ الموسمية عادة بشرية يتخذونها في الأفراح و الأتراح ، بل الكثير من المناسبات البشرية أعطيت طابعا موسميا فجاء الإسلام بسُنة الموسمية ليقدم (عن طريقها) طرحا إيمانيا ..
ولابد لهذه الكلمة من توضيح :
عندما كان من عادة البشرية ـ البعيدة عن الجو الإيماني ـ اللهو حتى أصبح خطرا عظيما يهدد رقيها وتكاملها لم يتنازل الدين عن هذا العنوان عنوان اللهو و أراد أن يطرح الإيمان من خلاله لا من مسرح عام ، وكما نعرف فان الأعلام لا ينجح في الزاوية المغمورة بل من الأفضل أن يكون في الساحات العامة فجاء الإسلام و طرح إعلاما في ساحة اللهو وقال كمثال : { لهو المؤمن في ثلاث } .و معنى آخر لهذا التحرك وهو أن يمنح للمسلم مهدئاً لنفسه التي قد تنزع إلى ما تشاهد فيهدئها بهذه المسميات..
ولكن المعنى الأساس هو أن من يتخذ منهجا خاصا وثقافة خاصة لا يلتفت إلا إلى ما يحاكي منهجه فالإسلام بهذه المضامين يخاطب المتولعين باللهو و المتمرسين بذلك   وهو نوع اختراق وغزو ديني في واقع القضية و هناك أمثلة كثيرة مما يشابه هذا المثال من قبيل الاصطلاح ـ في بعض الروايات ـ عن المتعة بأنها بدل الخمر و الشراب فهذا كما يكون تعويضا و تهدئةً لنفس المؤمن مما حرم و منع كذلك أسلوب جذاب في الدعوة أو إذا سمح التعبير فهو أسلوب دعوي مغناطيسي يصلح لأصحاب الشره..و أتباع الميول النفسية ..
و الخلاصة المستخلصة هنا :
أن بعض العناوين و الممارسات تحولت إلى إعلام و واجهة إعلامية لخط معين و إن كان منحرفا .. فمثلا الممارسات الجنسية المنظمة هي في حد وجودها (إعلام) ؟!و اللهو المنظم و المتناقل أيضاً هو (إعلام).القوة العسكرية و المزايدات في إنتاج و اقتناء السلاح (إعلام) اتخاذ مواسم لأعياد ماجنة مثل ما يسمى بعيد الحب العالمي .. أو دوريات رياضية عامة هذا (إعلام) أيضا . و إن السماء ومن بعدها العقول المفكرة والمدبرة للإسلام لم تقبل أن يبقى الإسلام فارغا من الجهة الإعلامية،بل حولت الطقوس الدينية إلى جانب إعلامي واسع ففي بعضها جاءت الطريقة الإعلامية مبتكرة لم تعهدها الديانات والسياسات رغم عدم تنازلها عما هو إعلامي يسرع إلى العقول باسمها ومضامينها بينما جاءت في بعضها الآخر على غرار ما هو المعروف على وجه الأرض و الواقع ولكلٍ مضامينه الخاصة من قبيل ما ذكرنا لك قبل قليل من المضامين التي تنتهي بنتيجة الغزو و الاختراق الديني ...
وبعبارة تختلف فكما أن للجهل و الجاهلية الرعناء إعلام في ممارساتها المنظمة وغير المنظمة وفي مواسمها ذات اللهو و المجون و اللا مسؤولية حدا لا يصبح الذكر إلا للجاهل و الجهلاء فكذلك الدين يتدارك نفسه و أهله حينما يخطط لنا المواسم بل بها يحقق المعارضة النوعية لما على الأرض مما يستنكره بروح تعاليمه... ويكفيه كخطوة أولى أن تذكر مواسمه و تنظيماته واحتفالاته و أعياده وجماهيره إلى جانب مواسم وتنظيمات و طقوس الآخر !!
الموسم (الإعلام) ثقل :
و نقطة أخرى و لا تكون أخيرة بالطبع ، وهي أن المواسم و التنظيمات مادام أنها أخذت الطابع الإعلامي فهي تحقق ثقلا للمنهج الذي تتبعه فكلما انصرفت تلك المواسم وعادت بحضور مهيب دلت على روح نابضة و أعضاء متماسكة ..ومن ابرز أمثلة المواسم الدينية عندنا التي تتوقف على الحضور الحاشد هي الحج إلى بيت الله تعالى فهو يعرب في كل عام عن وحدة وتماسك المسلمين بل هو الوجهة الإعلامية للوحدة و الروح الواحدة . و لذا نحن نُحارَب وتحاك خلفنا المؤامرات لأن هذا النوع من الإعلام يشكل لنا عيارا خاصا وثقلا مشهودا و لو كان الناس يحجون متفرقين لما شعر شاعر بثقلنا .
أتصور بهذا العرض أن فكرة موسم عاشوراء قد قربت من الأذهان فأنت أيها الشيعي بالاحتفاء بهذه المواسم المباركة تكون قد حققت للمبدأ الذي تتبناه ثقلا ووجهت إعلاما خاصا للقضية التي تحملها و لا تنسى انه القوة بكل معناها و الدليل على هذا التفسير أن قضية الحسين و مواسم الحسين عليه السلام حوربت قديما و حديثا ، و الحس الفطري يقول لا يحارب الضعيف و لكن للقوي أو عليه ؟!
وحصيلة هذا العرض أن فكرة تنظيم الممارسة أو إعدادها إعدادا موسميا له معطياته في مجالي:
1-       الإعلام .
2-       الغزو و الاختراق بشكل آلي و مغناطيسي ..
3-       المعارضة و المحاكات للأسلوب الفاسد بالأسلوب الصحيح .
4-       التهدئة النفسية لئلا تنصرف النفوس إلى ما يتمتع به الإنسان غير المتقيد .
فلسفتها في الدائرة الحسينية :
و إن ذات الموسم الحسيني له مؤثراته و نتائجه الخاصة التي يمكن أن تزاد على كافة المعطيات المتقدمة ـ ونحن نتكلم بعامةٍ على المواسم الدينية ـ بل هي تعد ثانوية بالقياس إلى ما حققه الموسم الحسيني على صعيد القضية الشخصي ، ونحن (بإذن الله تعالى) نقوم بدرجها هنا على شكل نقاط :
أ) حفظ القضية عن النسيان :إن عامل النسيان يشكل تهديدا لكثير من الوقائع و المجريات بل كلها (إلا ما رحم ربي بأقلام المؤرخين) .. كما أن النسيان هو موت الأفكار الذي تفر منه،وموت لكثير من القصص التي تمثل منهاجا صادقا يدعو للتمسك بها..ولذا فان القرآن ـ ككتاب خالد ـ خلد ذكر بعض الأنبياء بل العديد منهم و قال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } (3) سورة يوسف .
لأن فيها ما يمثل منهاجاً في الصبر و التحمل ..
ومنها ما يمثل  المقاومة و الصلابة في جنب الله تعالى بل وتوحيده كقصة إبراهيم الخليل عليه السلام .
و منها ما يمثل العزة و الكرامة كقصة موسى و قومه ...
و بما أنَّ الحسين عليه السلام إمام،مختار،ووريث،حاوي لجميع الرسل و الأنبياء : (( السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله ، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله ، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله ، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله ، السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله ... ))[2].
فرسمت ثورته و ترك قيامه للبشرية الكثير من مناهج و أسس الإصلاح و التضحية ، و الصبر على الأذى في جنب الله سبحانه،و العزة البالغة،و الوفاء الصادق مضافاً على القيمة الشخصية لأعلام ثورته كل شهيد شهيد و كل فردٍ فردٍ و هل التاريخ إلا رجال المواقف و مواقف الرجال ؟
وهنا نعود بالقول:
لو أهملت تلك النهضة و لم تعظم لذهبت أدراج النسيان و طي الرياح و هي الثورة التي لا يصح أن تحفظ بالكتابة التاريخية فحسب لأن الكتابة درجة ضعيفة من الاحتفاظ .. و لكن لابد من أن تبقى محتلة و مستولية على كل رأس و فؤاد يريد الحياة للعمل و العمل للحياة . و من هنا حثت الأئمة على الاحتفال بموسمه الخالد المخلد :
كذب الموت فالحسين مخلد             كلما أخلق الزمان تجدد
و هنا يروى أن الشيخ الأميني صاحب موسوعة الغدير الشريفة كان واقفاً ينظر إلى موكب عزائي و إلى صفه أحد العلماء من إخواننا السنة فقال للأميني لماذا تفعلون هكذا فهل الحسين يطلب منكم ذلك ؟ فقال : نحن نمارس هذه الطقوس بشكل راتب حتى لا تنسون يوم أبي عبد الله عليه السلام كما نسيتم يوم الغدير ؟!!
ب) العاشريون قرآنيون :
إن تجديد الذكرى أو تخليدها الذي يتم بأساليب منها الجزع و الادثار بدثار الحزن له محتويات لا توجد إلا في صفحات القرآن الكريم فانه على شباهة بالواقع العاشوري الذي يتخذ القران الكريم مرجعاً له فيما يهدف إليه . فالقرآن الشريف احتوى على قضايا وهو الكتاب الذي يقرأ و يتلى في آناء الليل و النهار فتكراره يعني تكرار تلك المحتويات و استعادته يعني استعادة تلك الأهداف و الطقس العاشوري أيضاً يتكرر و يكرر معه محتوياته جملةً و تفصيلاً .. و لنلاحظ ماذا يتكرر بالمداومة على القرآن العزيز و ملاحظة الشباهة ـ من ثمة ـ على القضية العاشورية التي قوامها ممارسة المؤمنين ...
* ذكر الصالحين و مواقفهم :
و الهدف هنا هو الاستفادة الأخلاقية و المعنوية و الشرعية بتذكرهم و تأمل مواقفهم النبيلة و لذا مع تكرار القراءة للقرآن الكريم تتكرر مع الإنسان قصة يوسف عليه السلام و عظمة صبره على الطاعة و قوته القاهرة للنفس الأمارة .
و أيضاً المرأة المسلمة حينما تعاود قراءة القران الكريم و تجدد العهد به تلو العهد : لا شك يلفت منها الالتفات إلى مواضع خاصة و منها ابنتي شعيب عليه السلام و كيف أن القران يصف إحداهن بأهم أوصاف الأنوثة و أجملها و هو الحياء فيقول تعالى : { فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء }[3].و هذا الهدف مرجو أيضاً لمن يتابع القضية الحسينية فأنت تجد أمثلة للرجال ـ من أنصار الحسين ـ الذين ابتعدوا عن الدنيا و غرورها وطلقوا الحلائل أو خيروهن أمثال حبيب و زهير و غيرهما .. كما تجد المرأة المسلمة الباحثة عن الأخلاق الفاضلة أمثلة عظيمة للمرأة المحافظة على حيائها و سترها و التي لم تكن لتبدي جسمها أو صوتها إلا في حين الضرورة القاهرة،والدور الذي تتطلبه رسالتها الإسلامية. بلى ستقرأ كل هذا في مواقف بنات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في كربلاء،والكوفة،والشام،والمدينة بعد عودتهن. 
* التنكيل بالتشهير :
إن أسلوب التشهير بالمعادي أو المعتدي أسلوب متخذ في الفقه الإسلامي فنلاحظ أنّ حدث السن غير المحصن إذا تورط في الزنا نستجير بالله يجلد ، و يحز شعره و يغرب عن مصره و يخطر ببالي أن السر في هذه المعاملة هو التشهير و التشهير  عملية بقدر ما هي عنيفة بقدر ما هي رادعة عن التورط في مثل ذلك بالنسبة له وبالنسبة لمن يشاهده ويسمع بخبره..
فإذاً هذا أسلوب وهدف عملي و قد جاء هذا الأسلوب بنفس الهدف في القران الكريم . فذكر أمثال نمرود ، فرعون ، و غيرهما من الطواغيت على مستوى الأفراد و الأقوام في هذا الكتاب الخالد و الحي بمداومة الخلائق على قراءته إنما لأجل التشهير بهم و بأفعالهم البالغة حد الشناعة و البشاعة . و إنَّ هذا المبدأ ذاته يقف مبرراً وراء المداومة على ذكر القضية الحسينية و الموسم العاشوري فيشهر فيه بالطغمة الأموية الفاسدة و المنهجية اليزيدية المارقة و يشنع عليهم و يكشف عن قبح ما فعلوا و ما صنعوا مع الأبرياء ، و النبلاء و أهل الكرامة من آل الرسول صلى الله عليهم أجمعين و صحابتهم البررة .. فكما أن من استوفاهم القرآن و جاء بذكرهم لأجل انهم محاربون لله و رسوله و أوليائه فهكذا يزيد و اليزيديون محاربون لله لحربهم وليه المطيع لله و لرسوله صلى الله عليه و آله .
  * الجزاء الحسن :
و إنّ من العرفان بقيمة الإنسان و احترام معنوياته هو مجازاته بالذكر الحسن و العطر على الشفاه و انه فن من الشكر الجميل لأصحاب المواقف الإنسانية الصادقة .. و القران الكريم قد عظم شخصيات و ذكرهم من باب الجزاء الحسن لهم لما تحلت به شخصياتهم من التجرد،و المظاهر الإلهية رجالاً كلقمان الحكيم و نساءً كمريم بنت عمران . طبيعي أن يجازي المحبون قائدهم و يعظمونه بالذكر سيما و أن النبي صلى الله عليه و آله و كافة الأئمة الطاهرين من بعده قد جازوه بذلك وسنتطرق إلى الروايات و الحكايات المدللة على اهتمامهم بهذا المواسم إن شاء الله تعالى .
* عاشوراء غذاء روحي :
إن الإنسان خلقت استقامته في مكامن بعيدة عن خلقته وذاته فلا يستطيع أن يوفر استقامة جسده أو روحه من تلقاء ذاته .. فجسده هذا لابد له من ممدات يستمد منها استقامته و اعتداله إذا تغذى عليها بالشكل المطلوب طعاماً .. رفاهيةً .. جنساً ..و الشيء الذي سيحصل لو انقطع الغذاء هو ردت فعل صحية و مزاجية بلا أي ريب في ذلك . و كذا عقله فسوف يغرق في الجهل و الظلام كردة فعل مؤكدة لو لم يحضر له الغذاء الكافي من العلم و التفقه الذي قد سمي في الروايات بالخير ففي الحديث الشريف (( إن الله إذا أراد بعبد خيراً يفقهه في الدين )) . فالخير الذي ينعم معه العقل أو (جهاز النظر) هو التنور و العلم و الفقه .. و أما مكامن استقامة الروح فهي عناوين جليلة و كثيرة من قبيل العاطفة،و الحلم،و الإحسان،و...و...جميع الملكات النفسية ، و مكامن هذه الملكات النفسية عبارة عن  :
1-      التربية الصالحة و الحميدة  .
2-      الدراسة الأخلاقية و التلقي للمناهج القرآنية و الإسلامية الفاضلة .
3-      الرياضة العملية ...
و العنصران الأولان لهما مجالهما في الحديث..و أما الرياضة العملية فان من أمثلتها الجليلة العاطفة فان استقامتها و توازنها لدى الإنسان لا تتأتى إلا بالممارسة الشديدة و المكثفة و السر في تكثيف هذه الرياضة أننا لا نكاد نجد إنساناً لا يمارس القسوة بل لولا القسوة لما وجد مظهراً للظلم في حياة البشرية على امتداد تاريخها .. و لذا فالإسلام كثف ونوع في مناهجه التي ترزق القلوب العاطفة و ترهف في النفوس هذا الحس الغريزي ، و لكي لا نغرق في هذه الجهة أو نبتعد عن ارتباط العاطفة بعاشور الحسين عليه السلام نلمح إلى أمثلة المكامن و التدريبات الشرعية لتقوية هذا الحس الفعال دون الولوج في تفاصيلها :
1- الإنجاب (الأبوة،و الأمومة) لان ذلك يوجب تدفق عاطفي يومي من الإنسان فيفعل هذا الحس في جوانبه ولذا ـ كأحد الأسباب التي نعلمها أو لا نعلمها ـ حبذا الإسلام اجتناب الزواج من العاقر ... بل أُجيز العزل و منع الحمل ممن لا تقبل التصدي لإرضاع ابنها و تكفل رعايته و تنشأته : لان الاستعداد العاطفي مطفأ هنا . و لذا في وسعنا القول إن أحد ابرز سلبيات ترك النسل و التساهل فيه هو انعدام أو انخفاض الحس العاطفي الذي هو من أساسيات أنظمة الحياة العامة و الخاصة . 2- تصدر التربية و مباشرة الأبناء لأنك إذا وقفت على الكثير من مشاكلهم و متطلباتهم جاءت منك الاستجابة الكثيرة أيضاً و بهذا الشكل سنشحذ في داخلك العاطفة بخلاف أن تترك أمر التربية و نوكلها للنيابة العامة (الخدامات) كما يصنع الكثير من الناس هذه الأوقات ..
3- العبادة بما فيها من خشوع و خضوع وهما معنيان للرقة التي هي الارتباط العاطفي فهما يعملان على إرهاف هذا الحس لدى الإنسان و إن في الحديث الشريف (( ما من قطرة احب إلى الله عز وجل من قطرتين : قطرة دم في سبيل الله و قطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها إلا الله عز وجل ))[4]. و إن تخصيص سواد الليل من بين سائر الأوقات لمغزى مهم و هو : أن هذا الوقت خال من أشغال الدنيا فلا ينصرف فكر الإنسان هنا و هناك و أن هذا الوقت بحكم ابتعاد الإنسان عن الأعين و الناظرين فان داعي المراءات و الرياء غير موجود .. و أيضاً فان من يتعود على تحمل مشقة ترك النوم و النهوض إلى مقام الطاعة تصبح عنده قدرة الانصراف عن المعاصي كبيرة فكلما تعرضت طريقه استطاع أن ينصرف عنها جانبا..
4- الاستماع للخطب و المواعظ فإنها من العوامل المحفزة للعاطفة لدى الإنسان و يُروى أن صحابةً جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و قالوا :"" اننا نستمع إلى خطبك و مواعظك و جلنا و نسينا الدنيا و زهدنا حتى كأنا نعاين الآخرة و الجنة و النار و نحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك و دخلنا هذه البيوت و شممنا الأولاد و رأينا العيال و الأهل نكاد أن نّحوَل عن الحالة التي كنا عليها عندك حتى كأنا لم نكن على شيء افتخاف علينا النفاق ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و آله كلا !إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا و الله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة و مشيتم على الماء .. و لو لا انكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفرون الله فيغفر لهم إن المؤمن مفتتن تواب""[5] ..
و نفس هذه الحالة تتكرر في وقت الإمام الباقر الصادق عليه السلام فنرى أن حمران بن أعين يقول له : (( أخبرك أطال الله بقاك ..... انا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا و تسلوا أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال ، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس و التجار أحببنا الدنيا،قال فقال أبو جعفر عليه السلام  إنما هي القلوب مرة تصعب ومرة تسهل ))[6]. و هكذا يضاعف الدين الكشف عن طرق تهذيب العاطفة و توجيهها إلى أن تتحول كملكة متمكنة من النفس .. و من بين الأمثلة و الطرق التي يتغذ عليها الحس العاطفي.
5- المجالس الحسينية فكل ما ذكرنا كان يؤثر بالرقة ففي رقم (1) عاطفة الانتماء و اللحمة و في رقم (2) عاطفة تربوية و تعليمية فان المتبني و المعلم أيضاً تربطه بالتلميذ أو الغلام أو الأخ ... و كل منتمي عاطفة خاصة .. و في رقم (3) رقة و عاطفة استشعار النعم والعرفان للجميل ورقة العبودية .. و في رقم (4) تجد رقة الذكرى النافعة و التذكير المفيد و لذا قال تعالى { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }[7].
و أما المجالس الحسينية فهي رقة و عاطفة جامعة وذات رقم صعب ومستقل هذه المرة إذ تجمع كل أصناف العاطفة و تزيد عليها فلاحظ : أن من يتفاعل مع قضية عاشوراء فهو يبرز انتمائه إليها و إلى بطلها الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام و كذلك هو يتبناها بشكل معنوي كسيرة استطاعت أن تثير النفوس ، و العقول و تسيطر على التاريخ و كتّابه فلا يستطيعون الازورار عنها قيد شعرة .. فأصبح الحسين معلم الأجيال و معلمهم و مؤدبهم بعد رسول الله و أبيه بالخصوص .. و إن ما اصطلحنا عليه برقة وعاطفة التبني لسنا نعني بها جانب الأستاذ فقط بل حتى المتعلم و هنا المعلم الحسين و نحن المتعلمون .. و أيضاً توجد العاطفة في مرحلتها الثالثة حيث إن الحسين انعم على الناس (من حيث اصطفاه الله لذلك) بنعمة الهداية و لذا ينظر إليه نظرة شكر و عرفان ، كما إننا نجد أيضاً العاطفة بيننا و بينه في مرحلتها الرابعة لان هذه الواقعة مليئة بالعبر و الذكرى و إن من أجزل الأبيات و أكثرها تعبيرا عن مجموعة العبر التي انطوت عليها شخصية الحسين في موقفه يوم العاشر هي أبيات هادي القصاب الشعبية:
لمسنا بشخصيتك أوصاف
فلا انوجدت ابشخصية

لمسنا بيك أبو الأحرار

عرفنا الموت حرية

لمسنا بذلت دم وحيه

عرفنا الدنيا وقتيه

لمسنا على الكرامة اقضيت

عرفنا نريدها هيه

لمسنا بيك أبي و متلين

عرفنا احنا فدائية
[8]
و إن العاطفة التي يتحصل عليها المؤمن المتقيد بولاية أهل البيت عبر الالتزام بمجالس الحسين عليه السلام (و هي غير موجودة ضمن ما ذكرنا في المجالات العامة للعاطفة يعني تزيد عليها) هي عاطفة التألم و الاستيحاش من الظلم و أساليب القهر و القمع المريع .. فلا أظن أن اسم (إنسان) يستحقه من لا يتألم و لا يفزع مما يقوم به الظلمة الجائرين،بل هذا قد أنسلخ عن إنسانيته وإن الذكرى العاشورية أعادت للأجيال المسلمة الشيعية إنسانيتها إزاء كل ما هو ظلم وحرمان. 

* عاشوراء في الميزان الحضاري :
إن كل قضية و مشكلة إذا أراد لها المسؤولون و القياديون تفاعلاً جماعياً يعقدون لها ـ بعنوانها الخاص ـ مؤتمرات إقليمية أو دولية قد يضيق نطاقها و قد يتسع .. فمرة تبذل تكاليف باهضة لمناقشة فكرة المرأة بمفردها و يقدم فيها عدد محدود من ذوي الأقلام و الكلام،مثل ما جرى في مؤتمر الصين .. و قرطبة وغيرهما .. و مرة تبذل تكاليف مبهرة لمن يسمع بها لإجراء مؤتمر دولي حول مسألة حقوق الإنسان.. و هكذا ...و لكن تلاحظ ان هذه المآتم تعقد طوال العام وبتجمهر كبير تشارك فيه جميع الطبقات .. يعني العدد غير محدود كما في تلك المؤتمرات ـ السمة الحضارية المحدثة ـ و يتحدث فيه علماء و خطباء لهم أتعابهم و ثقافتهم وفقههم و يتحدثون عن كل موضع إنساني حتى تلك العناوين التي تعقد المؤتمرات لأجلها.. فمن نقطة السيدة زينب ينطلق الكلام عن المرأة.. و من نقطة استبداد آل أمية ينطلق الحديث عن حقوق الإنسان.. و من نقطة إمامة الحسين ينطلق البحث حول السيادة و القيادة الراشدة و أهميتها في المجتمع ككل !! و هكذا إلى العديد من المنطلقات كالإصلاح..الأمر بالمعروف..محاربة الإذلال.
الشيخ عبدالجليل البن سعد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق